Thursday, April 19, 2012

«أوتيزم».. لست وحدك




نُشر هذا المقال بتاريخ ١٩ ابريل في موقع المصري اليوم


http://www.almasryalyoum.com/node/781216

«ق»، سمعتها فسرت قشعريرة في جسدي بأكمله. فبعد ثلاثة أشهر من نطق الحروف الكاملة لكلمة «قطة»، لم يستطع ولدي نديم أن ينطق من هذه الكلمة سوى ذلك الحرف. كان ذلك في سبتمبر 2009، حين بلغ من السن عامين وسبعة أشهر، فيما كنت أنا أحمل في بطني ولدي الثاني: رامي.

وحين حلت احتفالات عيد القديسين (هالوين)، أبي نديم أن يرتدي حلة الفأر إلا بعد محاولات لإقناعه والتودد إليه. ذهبت لاصطحابه من روضة الأطفال ذاك اليوم، فوجدته وقد بدا عليه أنه بكى لساعات. طُلِب مني التوجه لغرفة المدير، وهناك وجدت الأربعة المسؤولين عن إدارة المكان في انتظاري.

حاول المسؤولون بأسلوب دبلوماسي غير واضح إخباري بأن نديم لا يستطيع أن يستمر في الحضانة دون أن يصاحبه مدرس متخصص في التعامل مع مثل حالته، حالة عدم الوضوح هذه أصابتي بتوتر شديد.

خرجت بعد 25 دقيقة مع نديم باتجاه السيارة، قبل أن يفاجئني شخص بريطاني يسكن بمنطقة الزمالك، فأخذ يشكو من «تخلف» المصريين بعد أن اكتشف أنني قد أوقفت سيارتي داخل مرآب البناية التي يسكنها. أما أنا فلم أجد الفرصة لأشرح له سبب تأخري، فقد أحمر وجهه واستمر في الصراخ في الوقت الذي كنت أحاول فيه تثبيت حزام المقعد على نديم. كانت أكثر اللحظات رعبًا بالنسبة إليّ؛ ففي تلك اللحظة فقط أدركت أن حياتي لن تعود كما كانت.

تيقنت من ذلك الشعور بصورة أكبر حين شخص الأطباء حالة نديم بالتوحد، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من حادثة الحضانة، وقبل أن ألد رامي في السابع والعشرين من ديسمبر 2009. وفي خلال تلك الأسابيع الثلاثة، لجأت إلى كل من أثق في قدرته على مساعدتي.

توجهت إلى طبيب الأطفال إيهاب فايق، وهو رجل مسن ذو خبرة عميقة تعرفت عليه حين رأى نديم لأول مرة حين كان عمره أسبوعاً واحداً. وانتهى الطبيب من خلال استجوابي ووصفي لحالة نديم إلى أن ثمة شكا في إصابته بمتلازمة أسبرجر، إلا أنه استطرد أن الحالة لاتزال تتطلب تقييما من متخصصين. وطلب مني مرافقتي عند الذهاب لهؤلاء المتخصصين، وكنت في حاجة إلى هذه المساندة بالفعل.

ساد الهدوء المشوب بالتوتر رحلتنا، فكان زوجي علي يقود السيارة، فيما جلست أنا بجانبه، وجلس نديم في مقعده في مؤخرة السيارة. كنا في طريقنا لمقابلة داليا سليمان، خبيرة علم النفس التربوي التي أسست الجمعية المصرية للأوتيزم في 1999.

كان كل سؤال تطرحه داليا يقابله إجابة مفصلة من علي. وشملت استفساراتها أسئلة مثل: هل يمشي على أصابع قدميه كثيراً؟ كم مرة يقوم بمعانقتك على مدار اليوم؟ هل يستجيب للطلبات؟ هل يستجيب لطلب واحد فقط أم لأكثر من طلب في المرة الواحدة؟ كانت المشاهد التي تجمعني بنديم تدور في رأسي أثناء ذلك. فأراني أضع معه مكعبات اللعب في الصندوق بعد أن انتهينا من لعبة غنائية، وأسمع صوتي محدثة إياه بقولي «نديم، هلا ذهبنا للاستحمام قبل أن نقرأ الكتب؟» فأرى عينيه تلمعان قبل أن يقفز باتجاه الحمام مباشرة. أنظر إلى دفتر ملاحظاتي الذي دونت فيه الكلمات التي يعرفها نديم والأصوات التي تراجعت إليها بعد فقده القدرة على نطقها كاملة.

قالت لنا «داليا» إن هذه الأسئلة كانت من أجل إجراء تقييم مبكر، وأضافت أن حالة نديم تقع في موضع ما على طيف التوحُّد بكيت في طريق العودة، وأصابني الغضب لقلة معلوماتي عن التوحد، وشعرت بالذنب لعدم ملاحظتي للأعراض مبكراً. كما لاحظت أنني كنت سابقاً في حالة الإنكار، وذلك في المرحلة التي رحت أسال فيها عن سبب تأخره في الكلام وأخذ الناس ذوي الخبرة بالأطفال وبحالة نديم في طمأنتي.

ولكنني أدركت أيضًا أن كل ما كنت أفعله مع نديم منذ ولادته منحه قدرة كبيرة على التواصل عبر طرق أخرى غير التخاطب بالرغم من دخوله في طيف التوحد. فقد اكتشفت على سبيل المثال في وقت مبكر - حين بلغ من العمر ثمانية أو تسعة أشهر - حبه للروتين ومعرفة كيف سيمضي يومه، ورأيت حبه للأشياء التي نقوم بها في أوقات مختلفة من اليوم كتلوين الأصابع، والألوان المائية وأقلام التلوين في الصباح، ثم اللعب بالأرجوحة واللعب في الرمال بالنادي في الظهيرة، والغناء والرقص طوال الوقت.

في الفترة ما بين اكتشافنا لمشاكل التخاطب لدى نديم وتمكننا من الحصول على مساعدة، كانت تصيبه نوبات غضب، وهو ما فسرته أنا بشعوره بالإحباط لعدم القدرة على الكلام. كنت محقة في ذلك، إلا أنني لم أكن أعرف ما أفعله لمساعدته.

سار نديم على برنامج داليا الذي صممته بناء على ما رأته من نقاط قوة وضعف، بالتعاون مع متخصصين في المهارات الاجتماعية، والعناية الشخصية، والعلاج الوظيفي، والعمل الأكاديمي، وبناء على منهج الجمعية المصرية للأوتيزم.

وقد أسهم ذلك التدريب في الإجابة على عدة تساؤلات تتعلق بالصعوبات التي جابهها نديم، والذي حقق بفضله تقدمًا ملحوظًا، وصار محبًا لنظامه اليومي، وأكثر سعادة، وأقل انطوائية، بل وأكثر قرباً إليّ ووالده. أما فيما يخص تعامله مع الآخرين (سواء نظرائه أو من البالغين) فإنه لا يعيرهم الانتباه إلا إذا جاهدوا بصورة كافية لجذب انتباهه.

ومنذ نوفمبر 2009، أصبحنا نلتقي بشكل أسبوعي مع داليا، الإنسانة القوية، والذكية، والمندفعة التي تؤكد لك دون حرج أن الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد هم كل ما يشغلها. لقد تمكنت داليا بالتعاون مع 35 من زملائها المدربين بالجمعية من تأسيس منظمة فريدة من نوعها في مجال رعاية ذوي التوحد في مصر. وعلى مستوى أعم، تناولت داليا بشكل حثيث وبنّاء قضية التوحد فيما يتصل بخدمات الحكومة والسياسات التي تنتهجها، وأسهمت في تدريب عدد كبير من طلاب الجامعات في كليات تربية ذوي الاحتياجات الخاصة. كما أنها لا ترُدُّ أي حالة إصابة بالتوحد تطلب منها المساعدة مهما كانت صعبة. لذا، فقد صارت هناك أهمية خاصة لدعم وتوسيع نشاط الجمعية في الوقت الحاضر.

إبريل هو شهر التوعية بالتوحد. فمن منا التفت إلى أهرامات الجيزة التي أضيئت يوم الإثنين الماضي باللون الأزرق احتفالاً بهذا اليوم؟ والأهم، من يعي أن ذلك الاحتفال هو جزء من حملة عالمية للتوعية بالتوحد؟ فهل مجرد تسليط الضوء الأزرق على الأهرامات بوجود شخصيات مشهورة سيجعل الناس يفكرون في الحاجة لبذل المزيد من الجهد للتعامل مع هذه الحالات في مصر؟.

وسائل الإعلام للأسف لا تنجذب إلا لمثل تلك الوسائل الاستهلاكية؛ فنجد العديد والعديد من المقالات التي تتحدث عن الأهرامات المضيئة والمشاهير الذين يشاركون في الاحتفال وغير ذلك، ولكن هل ثمة مقالة تشرح ما هو التوحد؟ أو الصعوبات الاجتماعية والقانونية والتربوية التي تواجه الأطفال المتوحدين وآبائهم؟ أنا بصفتي أم لطفل مصاب بالتوحد، وإعلامية تركت العمل بالمجال منذ 2005، أشعر بالقلق من الهوجة الإعلامية المؤقتة والسطحية، فنحن في حاجة إلى القيام بما هو أكثر من ذلك.

ما أتوقعه من الصحفيين هو أن يقوموا بمهامهم بالاستقصاء حول قضية التوحد، واستكشاف مستوياتها المتعددة، ونشر روايات وقصص متعمقة عن التوحد في مصر. فالتوحد قضية متعددة الأوجه تشمل حياة الآباء وأبنائهم، والقيود القانونية، والعلاج المكلف، وإهمال الحكومة لرعاية المصابين، ونقص المعلومات المتاحة خصوصًا باللغة العربية، وغيرها كثير.

بل أتوقع أن أسمع في برامج الأحزاب ومرشحي الرياسة وجدالات الدستور حوارات عن دور الدولة في تسهيل حياة كل الفئات التي لها حاجات خاصة في المجتمع، مؤقتة كانت أم دائمة، من الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن الذين بالنسبة لهم مجرد السير في شوارع المدينة هو نضال.

تعد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها مصاب التوحد عاملاً أساسيًا في تحديد مدى صعوبة حياته، إذ يتعذر الحصول على العلاج والمعلومات الكافية حول التوحد نظرًا للكلفة ونقص المعلومات المتاحة عن الخدمات المتاحة في مصر و مستوى الخدمة. الوضع في مصر في منتهى البؤس، وهو ما يشعرني بالغضب لرغبتي في رؤية صحفي يتبنى القضية بشكل متعمق ويواجه المسؤولين بما توصل إليه.

أشعر بالغضب بالرغم من قدرتي على تحمل التكاليف التي يحتاجها نديم والمعلومات المتاحة بالإنجليزية التي أستطيع استيعابها. أشعر بالغضب بالرغم من معارفي من خبراء التربية والمتخصصين الذين ارتبطت بهم عبر عملي في مؤسسة التعبير الرقمي العربي، والمعنية بتطوير وسائل التعبير عبر منصات تعليمية بديلة. ولكن المسألة لا تتعلق بي وحدي.

إن تجربتي مع الجمعية المصرية للتوحد هي انعكاس للتحديات الاقتصادية التي تواجه قضية علاج التوحد في مصر. ففي نوفمبر الماضي، قرر المدربون بالجمعية الإضراب عن العمل للمطالبة بزيادة الأجور؛ وهو المطلب الذي التفوا حوله على . مدار عامين. فيما تعتمد الجمعية على موارد ضئيلة رغم رعايتها لأطفال ذوي أوضاع اقتصادية متباينة ولا يقدرون على تحمل تكاليف برنامج الرعاية كاملة. أما نحن كآباء يدركون أهمية الجمعية في حياة أبنائهم، فقد وعينا المسؤولية. فبعد لقاءنا مع داليا، قررنا تشكيل لجان تهدف لتطوير الجمعية على المستوى المؤسسي.

وصارت اجتماعاتنا مفعمة بالنشاط والانفعال. حينما نندفع من واقع وضعنا الشخصي وننطلق إلى العام تكون الثورة قد بدأت ولا يستطيع أحد إيقافها.

أعتبر تجربتنا جزءا من سياق الثورة، فهي بمثابة أحد ردود الفعل الشعبية الكثيرة لإخفاق الحكومات في تحسين حياتنا.

ويمكن تحسين حياة الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد في مصر عبر تغيير سياسات الحكومة. فثمة تفاصيل كثيرة يمكن حلها بشكل فوري: مثل تغيير شكل اختبارات الذكاء بصورة تتناسب مع حالات التوحد، ومنحهم عفوًا فوريًا من أداء الخدمة العسكرية. فيما تبرز مسائل أخرى تحتاج إلى تغيير شامل كإعادة دمج الأطفال المتوحدين في المدارس، وتطوير المناهج الدراسية بحيث تتضمن وسائل بصرية لمساعدة الطلاب، والأهم هو تدريب موظفي الحكومة الذين يحتكون بالأطفال من سن عامين إلى خمسة أعوام على إجراء تقييم مبدئي لحالات التوحد، وذلك لضمان اكتشاف الحالات بشكل مبكر، وهو ما يمثل عنصرًا فارقًا بالنسبة للمصابين ومستقبلهم.

في الثاني من أكتوبر الماضي كان أول يوم في أول سنة يذهب فيها نديم إلى المدرسة. تحمس كثيرًا عند شراء شنطته الجديدة وأقلامه واستيقظ متحمسًا يقول أروح المدرسة بابتسامته التي تذيب القلوب أينما كانت. يشرف على نديم خلال ساعات المدرسة ولسنوات عدة مدرس ظلّ يساعده على التواصل مع المدرسين والطلبة - هو يعبر - لكن بطريقته الخاصة التي نحتاج نحن الأقل شاناً تدريب لكي نفهمها. نديم اليوم يحضننا ويقبلنا ويلعب معنا ويضحك معنا. يغني ويرقص ويكتب ويقرأ ويستمتع بحل مسائل الجمع والطرح ورسم الأشكال الهندسية. وتتسم طلباته البسيطة بالتلقائية. بل إنه صار يقلدنا ويمثل أجزاء من أفلامه المفضلة. وهو الأن يرفع سماعة الهاتف ويجري مكالمات خيالية قبل أن يغلق الخط ثانية أدرك أننا قطعنا شوطًا طويلًا مليئًا بالانفعالات في مناسبات عدة، ولكننا اليوم في حالة أقوى وأفضل في التعامل مع التحديات التي يواجهها . فنديم لم يتحسن فحسب، بل يضيف رابطاً شخصياً جديداً بالعالم المحيط، وهي النقطة المحورية للحظة الثورية التي نعيشها.

رنوة يحيي ناشطة وعضو مؤسس في مؤسسة التعبير الرقمي العربي (أضف). يمكنكم التواصل مع الجمعية المصرية للأوتيزم هنا: @egyptautism

من إيجيبت أندبندنت

www.egyptindependent.com

1 comment: