Wednesday, April 18, 2012

غزة – رنوة يحيى الحياة - 25/11/05//

بمناسبة كل الكلام عن زيارة فلسطين و الفلسطينيين انشر مقال لم يعد متاح على موقع جريدة الحياة اللندنية عن زيارتي لغزة في ٢٠٠٥

المسلحون في غزة يسرقون الأسد من حديقة الحيوانات ويحكمون المدينة على نحو ما حكموا بيروت


غزة – رنوة يحيى الحياة - 25/11/05//

لم استطع في البدء تحديد تلك النظرة التي رأيتها تتكرر في عيون اهل غزة. قضيت خمسة ايام في غزة التي وصلتها يوم عيد الفطر. قالوا لي انني اول لبنانية تدخل غزة بعد الانسحاب. بالنسبة الي، كنت ذاهبة الى فلسطين التي حلمت بها منذ ان نما فيّ وعيّ سياسي.

لن اتهم بالخيانة الوطنية لأنني لم اتعامل مع اسرائيليين فاليهود انسحبوا ولا أثر لهم غير الدمار الذي تركوه وراءهم وتلك النظرة التي تكررت والتي لم افهمها في بادىء الأمر.

ذهبت الى فلسطين والى الفلسطينيين.


الجدران في غزة لوحات (الحياة)
في المناقشات التي سبقت تلك الرحلة، قلت انني سأرفض التعامل بالشيكل لكنني سرعان ما ادركت وأنا اتمشى في سوق غزة كم كان موقفي ساذجاً. بعيداً من غزة استطيع، كما يفعل الكثيرون، ان اناقش بشعارات رنانة وحماسية تشعبات خطر التطبيع. لكن، في قلب الحدث، امام اهل غزة، أرى كم كنت بعيدة من الواقع. العملة اسرائيلية والبضاعة اسرائيلية. الكتابة العبرية على البضائع التي اجفلتني لا محال منها في غزة.

هم في مكان آخر، في قلب الحدث ولا وقت لديهم لهذه الترّهات.

الكلام عن الغارات الجوية العنيفة التي صدمت اهل غزة في آخر عشرة ايام من رمضان، عن نقص الحليب في السوق، عن احتلال ثلاثة شبان مسلحين لشارع في غزة، عن تمرد عشرات المسلحين من قوى الانضباط وتجمعهم في حي من احياء غزة واطلاقهم النار في الهواء، عن سرقة الأسد من حديقة الحيوان!

حديقة حيوان في غزة؟ نعم. في ليلة من ليالي رمضان الأخيرة، هاجم 15 مسلحاً حديقة الحيوان في غزة التي اسستها جمعية غير حكومية وسرقوا الأسد. يعلم كل اهل غزة اين ذهب الأسد «بس الشاطر مين يجيبوا».

في الطريق من معبر رفح الى قلب غزة، امتلأت جدران الشوارع والمباني والأسوار بشعارات واعلانات وحتى رسائل حب. رائحة النفايات المحترقة في كل مكان. تذكرت بيروت كثيراً في هذه الرحلة، بيروت الحرب. غرافيتي ابو الريش بدل ابو الجماجم. غرافيتي حماس وكتائب شهداء الأقصى والقسام بدل «المرابطون» و «أمل» وpsp.

«تؤكد حماس على خيار المقاومة»، «هنيئاً بالشهادة»، «أهلاً وسهلاً بحجاج بيت الله الحرام»، «سندويتشات الأمل تقدم اشهى المأكولات بأرخص الأسعار»، «احم القانون لكي يحميك»، «انتخبوا فلاناً»، «كتائب القسام»، «وحدوا الله»، «للتعرف اذهب الى موقع الشات عنوانه...».

شوارع غزة كشوارع جنوب لبنان المحرر، صور لشهداء على كل عمود كهرباء، شباب متعطّل يمضي وقته في الشارع، ينتظر دوره، ينتظر من يأتي اليه بسلاح ومال ومهمة.

كنت كغيري في الشارع، لم ينظر الي كغريبة حتى عندما تكلمت بلهجتي اللبنانية. اهل غزة متعودون على تعدد اللهجات فكثير ممن عادوا اتوا بلهجات البلاد العربية المختلفة التي كانوا فيها.

قليل منهم كان لديه الفضول ليسأل عن عالم آخر. لأول مرة أذهب الى مكان لا اعرفه ولا اقدم نفسي كصحافية. غلبني صمت لم احاربه واستسلمت لما ارى وأشم وأسمع.

الطريق الشرقي يذكرني بطريق السعديات. كان قليل الحركة قبل الانسحاب ومن يختاره يقود بسرعة جنونية لتفادي احتمال قصف اسرائيلي. الطريق الآن تزداد حركته لكن ليس كما امتلأت شوارع الجنوب بعد التحرير. اهل غزة رتبوا حياتهم اليومية ليتفادوا الحواجز الأسرائيلية التي كانت متناثرة في غزة قبل الانسحاب. لم تتغير هذه الحركة كثيراً. كل في مكانه يواجه قسوة الحياة اليومية.

تحدث كثيرون من اهل غزة عن الغارات الجوية الاسرائيلية التي سبقت العيد وأتت عليه. الصدمة والهلع هي هي في وجوه كل من حكى قصته. «الغارات نغصت علينا العيد. في كل سنوات الاحتلال لم يحصل لنا هذا»، تقول لينا بنت العشرين ربيعاً التي تعمل في تصميم مكتبات أطفال في مدارس غزة وقراها.

على مدى اكثر من اسبوع، نفذت قوات الاحتلال الاسرائيلي عشرات من الغارات الجوية الحقيقية والوهمية التي عبرت حاجز الصوت على علو مخفوض في قطاع غزة، محدثة في كل مرة دوياً شديداً يشبه الانفجار القريب. سجلت حالات عدة من الاجهاض ونزيف الأنف وألم الأذن من شدة ضغط الدوي إضافة الى حالة الهلع التي اصابت اهل غزة وأطفالهم.

يصف اهل غزة الغارات بتفصيل لطول مدتها وتكرارها. «تسمع هدير الطائرة وفي ثوان تشعرها دهراً، يعلو الصوت اكثر فأكثر، لا تعرف ان كانت الغارة ستكون وهمية او حقيقية، هل سنموت او نصاب او هل لن يتعدى الموضوع سوى تكسير زجاج النوافذ. يعلو صوت الطائرة اكثر فيبدأ كل شيء يهتز كما لو حصل زلزال ثم ينزل دوي هائل يجعل منك تخبيء رأسك او تهرع الى أكثر المواقع أماناً في البيت وتعاد الكرة مرة تلو الأخرى».

«كانت الغارات تأتي في الليل وفي الصباح المبكر في وقت ذهاب الطلاب الى المدارس. كان ارهاب نفسي فظيع»، تقول لينا.

في يومي الرابع في غزة، ذهبت الى مطعم ابو حصيرة، اقدم مطعم سمك في غزة. وصلنا لنجد عدداً كبيراً من المسلحين امامه وسيارات كبيرة عدة. لحظات وفهمنا ان محمد دحلان في الداخل مع مبعوث الاتحاد الأوروبي مارك أوتي. لم ينج عمود من اعمدة المطعم من صورة دحلان ذات القبضة المحكمة باستثناء واحد خصص لأحد الشهداء. مدخل المطعم وداخله يعجان بالمسلحين. رأيت دحلان جالساً وظهره الى المدخل. لا أثر لمرض خطير عليه كما تتهافت الاشاعات في شوارع غزة. صور دحلان وهو يشهر قبضته، تملأ شوارع غزة. منها ممزقة ومنها محترقة ومنها موجودة بكمية هائلة. في المقابل، لا أثر لصور عرفات، الذي اقتربت ذكرى وفاته الأولى.

لم يخف التوتر في المطعم المطل على البحر الا عند مغادرته. موكب السيارات الضخمة المصفحة احدث غباراً مهولاً ساهمت رياح بحر غزة في انقشاعه.

ثمة شيء في قلب البحر امام مخيم الشاطئ، تركز نظرك فترى علم فلسطين يرفرف في وسط البحر. كان هذا المشهد من المشاهد القليلة التي تبعث فيك الأمل لكن الشعور سرعان ما يصطدم بالواقع. أطفال مخيم الشاطئ يحتفلون بالعيد بمبارزات يستعملون فيها مسدسات بلاستيك. في اول يوم من العيد، اغتال جنود الاحتلال الطفل احمد الخطيب البالغ من العمر 12 سنة في جنين عندما كان يلعب بمسدس بلاستيك.

في الليل، شوارع غزة خالية لكن مطاعمها ومقاهيها مملوءة بالناس. عند مدخل كل مطعم يوجد اعلان للزبائن: «لطفاً ممنوع الدخول بالسلاح». السلاح في كل مكان وأصوات الطلقات في الهواء لا تفاجئ أحداً. اتذكر بيروت.

سوق غزة خليط من سوق الروشة ايام حرب بيروت بصفائح الزنك المتراصة واحداً تلو الآخر وسوق الحميدية الدمشقي. مسجد العمري، اقدم مسجد في غزة، في طور الترميم. سوره الأثري مدروز بالشعارات الدينية، وشعارات المقاومة التي تتجاهل لافتة صغيرة كتب عليها: «الرجاء عدم الكتابة على جدران المسجد».

مجدي المصري، صاحب محل عطارة في السوق يشكو من الفلتان الأمني ومن ضعف «الحج محمود» (أبو مازن) في السيطرة على الأمن. يشكو من الوضع الاقتصادي القاسي. لمجدي ايضاً تلك النظرة التي حيرتني كثيراً.

صاحب مطعم افتتح حديثاً في غزة يبدأ سرد قصته العجيبة بمقدمة: «دعوني اقول لكم ان الوطن جميل». اكتشف ان هناك دعوة ضده من بلدية غزة بمبلغ من المال يدين به لمصلحة المطافئ التي تطالبه بتكاليف اطفاء حريق مطعمه الذي ترك مشتعلاً حتى لم يبق منه شيء. سرد قصته كما هي في الوقائع وانتهى كما بدأ: «الوطن جميل».


مطعم السلام على شاطىء غزة (الحياة)
عائلة غزاوية تكلمت بحماسة عن عرض افلام في سينما المركز الثقافي التابع لجمعية الهلال الأحمر خلال العيد. ابو قاسم علق بأمل عن حشود العائلات التي ذهبت الى العروض. العروض السينمائية في غزة شحيحة منذ ان حرقت سينما النصر الوحيدة على يد مجموعة من المسلحين في 1994. تأمل أم قاسم بأن تستمر الجمعية في عرض الأفلام وتقول ان الأمل موجود طالما العروض ملائمة للعائلات و «غير مستفزة».

الأمل الوحيد الذي يتمسك به أهل غزة هو فتح معبر رفح. «من غير المعبر سنظل في هذا السجن»، تقول لينا. مجدي صاحب محل العطارة قال الشيء نفسه. لكنه عندما دخل في تفاصيل معبر رفح، في التكلم عن الاحتمالات المختلفة، في ما ستتفاوض عليه مصر ودحلان، رجعت تلك النظرة من جديد. فجأة وضحت الرؤية التي اكتشفت انني لم اكن اريد الاعتراف بها.

انها نظرة من لا يرى نهاية للنفق المظلم.

سرقوا الأسد!

No comments:

Post a Comment