Thursday, April 19, 2012

«أوتيزم».. لست وحدك




نُشر هذا المقال بتاريخ ١٩ ابريل في موقع المصري اليوم


http://www.almasryalyoum.com/node/781216

«ق»، سمعتها فسرت قشعريرة في جسدي بأكمله. فبعد ثلاثة أشهر من نطق الحروف الكاملة لكلمة «قطة»، لم يستطع ولدي نديم أن ينطق من هذه الكلمة سوى ذلك الحرف. كان ذلك في سبتمبر 2009، حين بلغ من السن عامين وسبعة أشهر، فيما كنت أنا أحمل في بطني ولدي الثاني: رامي.

وحين حلت احتفالات عيد القديسين (هالوين)، أبي نديم أن يرتدي حلة الفأر إلا بعد محاولات لإقناعه والتودد إليه. ذهبت لاصطحابه من روضة الأطفال ذاك اليوم، فوجدته وقد بدا عليه أنه بكى لساعات. طُلِب مني التوجه لغرفة المدير، وهناك وجدت الأربعة المسؤولين عن إدارة المكان في انتظاري.

حاول المسؤولون بأسلوب دبلوماسي غير واضح إخباري بأن نديم لا يستطيع أن يستمر في الحضانة دون أن يصاحبه مدرس متخصص في التعامل مع مثل حالته، حالة عدم الوضوح هذه أصابتي بتوتر شديد.

خرجت بعد 25 دقيقة مع نديم باتجاه السيارة، قبل أن يفاجئني شخص بريطاني يسكن بمنطقة الزمالك، فأخذ يشكو من «تخلف» المصريين بعد أن اكتشف أنني قد أوقفت سيارتي داخل مرآب البناية التي يسكنها. أما أنا فلم أجد الفرصة لأشرح له سبب تأخري، فقد أحمر وجهه واستمر في الصراخ في الوقت الذي كنت أحاول فيه تثبيت حزام المقعد على نديم. كانت أكثر اللحظات رعبًا بالنسبة إليّ؛ ففي تلك اللحظة فقط أدركت أن حياتي لن تعود كما كانت.

تيقنت من ذلك الشعور بصورة أكبر حين شخص الأطباء حالة نديم بالتوحد، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من حادثة الحضانة، وقبل أن ألد رامي في السابع والعشرين من ديسمبر 2009. وفي خلال تلك الأسابيع الثلاثة، لجأت إلى كل من أثق في قدرته على مساعدتي.

توجهت إلى طبيب الأطفال إيهاب فايق، وهو رجل مسن ذو خبرة عميقة تعرفت عليه حين رأى نديم لأول مرة حين كان عمره أسبوعاً واحداً. وانتهى الطبيب من خلال استجوابي ووصفي لحالة نديم إلى أن ثمة شكا في إصابته بمتلازمة أسبرجر، إلا أنه استطرد أن الحالة لاتزال تتطلب تقييما من متخصصين. وطلب مني مرافقتي عند الذهاب لهؤلاء المتخصصين، وكنت في حاجة إلى هذه المساندة بالفعل.

ساد الهدوء المشوب بالتوتر رحلتنا، فكان زوجي علي يقود السيارة، فيما جلست أنا بجانبه، وجلس نديم في مقعده في مؤخرة السيارة. كنا في طريقنا لمقابلة داليا سليمان، خبيرة علم النفس التربوي التي أسست الجمعية المصرية للأوتيزم في 1999.

كان كل سؤال تطرحه داليا يقابله إجابة مفصلة من علي. وشملت استفساراتها أسئلة مثل: هل يمشي على أصابع قدميه كثيراً؟ كم مرة يقوم بمعانقتك على مدار اليوم؟ هل يستجيب للطلبات؟ هل يستجيب لطلب واحد فقط أم لأكثر من طلب في المرة الواحدة؟ كانت المشاهد التي تجمعني بنديم تدور في رأسي أثناء ذلك. فأراني أضع معه مكعبات اللعب في الصندوق بعد أن انتهينا من لعبة غنائية، وأسمع صوتي محدثة إياه بقولي «نديم، هلا ذهبنا للاستحمام قبل أن نقرأ الكتب؟» فأرى عينيه تلمعان قبل أن يقفز باتجاه الحمام مباشرة. أنظر إلى دفتر ملاحظاتي الذي دونت فيه الكلمات التي يعرفها نديم والأصوات التي تراجعت إليها بعد فقده القدرة على نطقها كاملة.

قالت لنا «داليا» إن هذه الأسئلة كانت من أجل إجراء تقييم مبكر، وأضافت أن حالة نديم تقع في موضع ما على طيف التوحُّد بكيت في طريق العودة، وأصابني الغضب لقلة معلوماتي عن التوحد، وشعرت بالذنب لعدم ملاحظتي للأعراض مبكراً. كما لاحظت أنني كنت سابقاً في حالة الإنكار، وذلك في المرحلة التي رحت أسال فيها عن سبب تأخره في الكلام وأخذ الناس ذوي الخبرة بالأطفال وبحالة نديم في طمأنتي.

ولكنني أدركت أيضًا أن كل ما كنت أفعله مع نديم منذ ولادته منحه قدرة كبيرة على التواصل عبر طرق أخرى غير التخاطب بالرغم من دخوله في طيف التوحد. فقد اكتشفت على سبيل المثال في وقت مبكر - حين بلغ من العمر ثمانية أو تسعة أشهر - حبه للروتين ومعرفة كيف سيمضي يومه، ورأيت حبه للأشياء التي نقوم بها في أوقات مختلفة من اليوم كتلوين الأصابع، والألوان المائية وأقلام التلوين في الصباح، ثم اللعب بالأرجوحة واللعب في الرمال بالنادي في الظهيرة، والغناء والرقص طوال الوقت.

في الفترة ما بين اكتشافنا لمشاكل التخاطب لدى نديم وتمكننا من الحصول على مساعدة، كانت تصيبه نوبات غضب، وهو ما فسرته أنا بشعوره بالإحباط لعدم القدرة على الكلام. كنت محقة في ذلك، إلا أنني لم أكن أعرف ما أفعله لمساعدته.

سار نديم على برنامج داليا الذي صممته بناء على ما رأته من نقاط قوة وضعف، بالتعاون مع متخصصين في المهارات الاجتماعية، والعناية الشخصية، والعلاج الوظيفي، والعمل الأكاديمي، وبناء على منهج الجمعية المصرية للأوتيزم.

وقد أسهم ذلك التدريب في الإجابة على عدة تساؤلات تتعلق بالصعوبات التي جابهها نديم، والذي حقق بفضله تقدمًا ملحوظًا، وصار محبًا لنظامه اليومي، وأكثر سعادة، وأقل انطوائية، بل وأكثر قرباً إليّ ووالده. أما فيما يخص تعامله مع الآخرين (سواء نظرائه أو من البالغين) فإنه لا يعيرهم الانتباه إلا إذا جاهدوا بصورة كافية لجذب انتباهه.

ومنذ نوفمبر 2009، أصبحنا نلتقي بشكل أسبوعي مع داليا، الإنسانة القوية، والذكية، والمندفعة التي تؤكد لك دون حرج أن الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد هم كل ما يشغلها. لقد تمكنت داليا بالتعاون مع 35 من زملائها المدربين بالجمعية من تأسيس منظمة فريدة من نوعها في مجال رعاية ذوي التوحد في مصر. وعلى مستوى أعم، تناولت داليا بشكل حثيث وبنّاء قضية التوحد فيما يتصل بخدمات الحكومة والسياسات التي تنتهجها، وأسهمت في تدريب عدد كبير من طلاب الجامعات في كليات تربية ذوي الاحتياجات الخاصة. كما أنها لا ترُدُّ أي حالة إصابة بالتوحد تطلب منها المساعدة مهما كانت صعبة. لذا، فقد صارت هناك أهمية خاصة لدعم وتوسيع نشاط الجمعية في الوقت الحاضر.

إبريل هو شهر التوعية بالتوحد. فمن منا التفت إلى أهرامات الجيزة التي أضيئت يوم الإثنين الماضي باللون الأزرق احتفالاً بهذا اليوم؟ والأهم، من يعي أن ذلك الاحتفال هو جزء من حملة عالمية للتوعية بالتوحد؟ فهل مجرد تسليط الضوء الأزرق على الأهرامات بوجود شخصيات مشهورة سيجعل الناس يفكرون في الحاجة لبذل المزيد من الجهد للتعامل مع هذه الحالات في مصر؟.

وسائل الإعلام للأسف لا تنجذب إلا لمثل تلك الوسائل الاستهلاكية؛ فنجد العديد والعديد من المقالات التي تتحدث عن الأهرامات المضيئة والمشاهير الذين يشاركون في الاحتفال وغير ذلك، ولكن هل ثمة مقالة تشرح ما هو التوحد؟ أو الصعوبات الاجتماعية والقانونية والتربوية التي تواجه الأطفال المتوحدين وآبائهم؟ أنا بصفتي أم لطفل مصاب بالتوحد، وإعلامية تركت العمل بالمجال منذ 2005، أشعر بالقلق من الهوجة الإعلامية المؤقتة والسطحية، فنحن في حاجة إلى القيام بما هو أكثر من ذلك.

ما أتوقعه من الصحفيين هو أن يقوموا بمهامهم بالاستقصاء حول قضية التوحد، واستكشاف مستوياتها المتعددة، ونشر روايات وقصص متعمقة عن التوحد في مصر. فالتوحد قضية متعددة الأوجه تشمل حياة الآباء وأبنائهم، والقيود القانونية، والعلاج المكلف، وإهمال الحكومة لرعاية المصابين، ونقص المعلومات المتاحة خصوصًا باللغة العربية، وغيرها كثير.

بل أتوقع أن أسمع في برامج الأحزاب ومرشحي الرياسة وجدالات الدستور حوارات عن دور الدولة في تسهيل حياة كل الفئات التي لها حاجات خاصة في المجتمع، مؤقتة كانت أم دائمة، من الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن الذين بالنسبة لهم مجرد السير في شوارع المدينة هو نضال.

تعد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها مصاب التوحد عاملاً أساسيًا في تحديد مدى صعوبة حياته، إذ يتعذر الحصول على العلاج والمعلومات الكافية حول التوحد نظرًا للكلفة ونقص المعلومات المتاحة عن الخدمات المتاحة في مصر و مستوى الخدمة. الوضع في مصر في منتهى البؤس، وهو ما يشعرني بالغضب لرغبتي في رؤية صحفي يتبنى القضية بشكل متعمق ويواجه المسؤولين بما توصل إليه.

أشعر بالغضب بالرغم من قدرتي على تحمل التكاليف التي يحتاجها نديم والمعلومات المتاحة بالإنجليزية التي أستطيع استيعابها. أشعر بالغضب بالرغم من معارفي من خبراء التربية والمتخصصين الذين ارتبطت بهم عبر عملي في مؤسسة التعبير الرقمي العربي، والمعنية بتطوير وسائل التعبير عبر منصات تعليمية بديلة. ولكن المسألة لا تتعلق بي وحدي.

إن تجربتي مع الجمعية المصرية للتوحد هي انعكاس للتحديات الاقتصادية التي تواجه قضية علاج التوحد في مصر. ففي نوفمبر الماضي، قرر المدربون بالجمعية الإضراب عن العمل للمطالبة بزيادة الأجور؛ وهو المطلب الذي التفوا حوله على . مدار عامين. فيما تعتمد الجمعية على موارد ضئيلة رغم رعايتها لأطفال ذوي أوضاع اقتصادية متباينة ولا يقدرون على تحمل تكاليف برنامج الرعاية كاملة. أما نحن كآباء يدركون أهمية الجمعية في حياة أبنائهم، فقد وعينا المسؤولية. فبعد لقاءنا مع داليا، قررنا تشكيل لجان تهدف لتطوير الجمعية على المستوى المؤسسي.

وصارت اجتماعاتنا مفعمة بالنشاط والانفعال. حينما نندفع من واقع وضعنا الشخصي وننطلق إلى العام تكون الثورة قد بدأت ولا يستطيع أحد إيقافها.

أعتبر تجربتنا جزءا من سياق الثورة، فهي بمثابة أحد ردود الفعل الشعبية الكثيرة لإخفاق الحكومات في تحسين حياتنا.

ويمكن تحسين حياة الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد في مصر عبر تغيير سياسات الحكومة. فثمة تفاصيل كثيرة يمكن حلها بشكل فوري: مثل تغيير شكل اختبارات الذكاء بصورة تتناسب مع حالات التوحد، ومنحهم عفوًا فوريًا من أداء الخدمة العسكرية. فيما تبرز مسائل أخرى تحتاج إلى تغيير شامل كإعادة دمج الأطفال المتوحدين في المدارس، وتطوير المناهج الدراسية بحيث تتضمن وسائل بصرية لمساعدة الطلاب، والأهم هو تدريب موظفي الحكومة الذين يحتكون بالأطفال من سن عامين إلى خمسة أعوام على إجراء تقييم مبدئي لحالات التوحد، وذلك لضمان اكتشاف الحالات بشكل مبكر، وهو ما يمثل عنصرًا فارقًا بالنسبة للمصابين ومستقبلهم.

في الثاني من أكتوبر الماضي كان أول يوم في أول سنة يذهب فيها نديم إلى المدرسة. تحمس كثيرًا عند شراء شنطته الجديدة وأقلامه واستيقظ متحمسًا يقول أروح المدرسة بابتسامته التي تذيب القلوب أينما كانت. يشرف على نديم خلال ساعات المدرسة ولسنوات عدة مدرس ظلّ يساعده على التواصل مع المدرسين والطلبة - هو يعبر - لكن بطريقته الخاصة التي نحتاج نحن الأقل شاناً تدريب لكي نفهمها. نديم اليوم يحضننا ويقبلنا ويلعب معنا ويضحك معنا. يغني ويرقص ويكتب ويقرأ ويستمتع بحل مسائل الجمع والطرح ورسم الأشكال الهندسية. وتتسم طلباته البسيطة بالتلقائية. بل إنه صار يقلدنا ويمثل أجزاء من أفلامه المفضلة. وهو الأن يرفع سماعة الهاتف ويجري مكالمات خيالية قبل أن يغلق الخط ثانية أدرك أننا قطعنا شوطًا طويلًا مليئًا بالانفعالات في مناسبات عدة، ولكننا اليوم في حالة أقوى وأفضل في التعامل مع التحديات التي يواجهها . فنديم لم يتحسن فحسب، بل يضيف رابطاً شخصياً جديداً بالعالم المحيط، وهي النقطة المحورية للحظة الثورية التي نعيشها.

رنوة يحيي ناشطة وعضو مؤسس في مؤسسة التعبير الرقمي العربي (أضف). يمكنكم التواصل مع الجمعية المصرية للأوتيزم هنا: @egyptautism

من إيجيبت أندبندنت

www.egyptindependent.com

Wednesday, April 18, 2012

غزة – رنوة يحيى الحياة - 25/11/05//

بمناسبة كل الكلام عن زيارة فلسطين و الفلسطينيين انشر مقال لم يعد متاح على موقع جريدة الحياة اللندنية عن زيارتي لغزة في ٢٠٠٥

المسلحون في غزة يسرقون الأسد من حديقة الحيوانات ويحكمون المدينة على نحو ما حكموا بيروت


غزة – رنوة يحيى الحياة - 25/11/05//

لم استطع في البدء تحديد تلك النظرة التي رأيتها تتكرر في عيون اهل غزة. قضيت خمسة ايام في غزة التي وصلتها يوم عيد الفطر. قالوا لي انني اول لبنانية تدخل غزة بعد الانسحاب. بالنسبة الي، كنت ذاهبة الى فلسطين التي حلمت بها منذ ان نما فيّ وعيّ سياسي.

لن اتهم بالخيانة الوطنية لأنني لم اتعامل مع اسرائيليين فاليهود انسحبوا ولا أثر لهم غير الدمار الذي تركوه وراءهم وتلك النظرة التي تكررت والتي لم افهمها في بادىء الأمر.

ذهبت الى فلسطين والى الفلسطينيين.


الجدران في غزة لوحات (الحياة)
في المناقشات التي سبقت تلك الرحلة، قلت انني سأرفض التعامل بالشيكل لكنني سرعان ما ادركت وأنا اتمشى في سوق غزة كم كان موقفي ساذجاً. بعيداً من غزة استطيع، كما يفعل الكثيرون، ان اناقش بشعارات رنانة وحماسية تشعبات خطر التطبيع. لكن، في قلب الحدث، امام اهل غزة، أرى كم كنت بعيدة من الواقع. العملة اسرائيلية والبضاعة اسرائيلية. الكتابة العبرية على البضائع التي اجفلتني لا محال منها في غزة.

هم في مكان آخر، في قلب الحدث ولا وقت لديهم لهذه الترّهات.

الكلام عن الغارات الجوية العنيفة التي صدمت اهل غزة في آخر عشرة ايام من رمضان، عن نقص الحليب في السوق، عن احتلال ثلاثة شبان مسلحين لشارع في غزة، عن تمرد عشرات المسلحين من قوى الانضباط وتجمعهم في حي من احياء غزة واطلاقهم النار في الهواء، عن سرقة الأسد من حديقة الحيوان!

حديقة حيوان في غزة؟ نعم. في ليلة من ليالي رمضان الأخيرة، هاجم 15 مسلحاً حديقة الحيوان في غزة التي اسستها جمعية غير حكومية وسرقوا الأسد. يعلم كل اهل غزة اين ذهب الأسد «بس الشاطر مين يجيبوا».

في الطريق من معبر رفح الى قلب غزة، امتلأت جدران الشوارع والمباني والأسوار بشعارات واعلانات وحتى رسائل حب. رائحة النفايات المحترقة في كل مكان. تذكرت بيروت كثيراً في هذه الرحلة، بيروت الحرب. غرافيتي ابو الريش بدل ابو الجماجم. غرافيتي حماس وكتائب شهداء الأقصى والقسام بدل «المرابطون» و «أمل» وpsp.

«تؤكد حماس على خيار المقاومة»، «هنيئاً بالشهادة»، «أهلاً وسهلاً بحجاج بيت الله الحرام»، «سندويتشات الأمل تقدم اشهى المأكولات بأرخص الأسعار»، «احم القانون لكي يحميك»، «انتخبوا فلاناً»، «كتائب القسام»، «وحدوا الله»، «للتعرف اذهب الى موقع الشات عنوانه...».

شوارع غزة كشوارع جنوب لبنان المحرر، صور لشهداء على كل عمود كهرباء، شباب متعطّل يمضي وقته في الشارع، ينتظر دوره، ينتظر من يأتي اليه بسلاح ومال ومهمة.

كنت كغيري في الشارع، لم ينظر الي كغريبة حتى عندما تكلمت بلهجتي اللبنانية. اهل غزة متعودون على تعدد اللهجات فكثير ممن عادوا اتوا بلهجات البلاد العربية المختلفة التي كانوا فيها.

قليل منهم كان لديه الفضول ليسأل عن عالم آخر. لأول مرة أذهب الى مكان لا اعرفه ولا اقدم نفسي كصحافية. غلبني صمت لم احاربه واستسلمت لما ارى وأشم وأسمع.

الطريق الشرقي يذكرني بطريق السعديات. كان قليل الحركة قبل الانسحاب ومن يختاره يقود بسرعة جنونية لتفادي احتمال قصف اسرائيلي. الطريق الآن تزداد حركته لكن ليس كما امتلأت شوارع الجنوب بعد التحرير. اهل غزة رتبوا حياتهم اليومية ليتفادوا الحواجز الأسرائيلية التي كانت متناثرة في غزة قبل الانسحاب. لم تتغير هذه الحركة كثيراً. كل في مكانه يواجه قسوة الحياة اليومية.

تحدث كثيرون من اهل غزة عن الغارات الجوية الاسرائيلية التي سبقت العيد وأتت عليه. الصدمة والهلع هي هي في وجوه كل من حكى قصته. «الغارات نغصت علينا العيد. في كل سنوات الاحتلال لم يحصل لنا هذا»، تقول لينا بنت العشرين ربيعاً التي تعمل في تصميم مكتبات أطفال في مدارس غزة وقراها.

على مدى اكثر من اسبوع، نفذت قوات الاحتلال الاسرائيلي عشرات من الغارات الجوية الحقيقية والوهمية التي عبرت حاجز الصوت على علو مخفوض في قطاع غزة، محدثة في كل مرة دوياً شديداً يشبه الانفجار القريب. سجلت حالات عدة من الاجهاض ونزيف الأنف وألم الأذن من شدة ضغط الدوي إضافة الى حالة الهلع التي اصابت اهل غزة وأطفالهم.

يصف اهل غزة الغارات بتفصيل لطول مدتها وتكرارها. «تسمع هدير الطائرة وفي ثوان تشعرها دهراً، يعلو الصوت اكثر فأكثر، لا تعرف ان كانت الغارة ستكون وهمية او حقيقية، هل سنموت او نصاب او هل لن يتعدى الموضوع سوى تكسير زجاج النوافذ. يعلو صوت الطائرة اكثر فيبدأ كل شيء يهتز كما لو حصل زلزال ثم ينزل دوي هائل يجعل منك تخبيء رأسك او تهرع الى أكثر المواقع أماناً في البيت وتعاد الكرة مرة تلو الأخرى».

«كانت الغارات تأتي في الليل وفي الصباح المبكر في وقت ذهاب الطلاب الى المدارس. كان ارهاب نفسي فظيع»، تقول لينا.

في يومي الرابع في غزة، ذهبت الى مطعم ابو حصيرة، اقدم مطعم سمك في غزة. وصلنا لنجد عدداً كبيراً من المسلحين امامه وسيارات كبيرة عدة. لحظات وفهمنا ان محمد دحلان في الداخل مع مبعوث الاتحاد الأوروبي مارك أوتي. لم ينج عمود من اعمدة المطعم من صورة دحلان ذات القبضة المحكمة باستثناء واحد خصص لأحد الشهداء. مدخل المطعم وداخله يعجان بالمسلحين. رأيت دحلان جالساً وظهره الى المدخل. لا أثر لمرض خطير عليه كما تتهافت الاشاعات في شوارع غزة. صور دحلان وهو يشهر قبضته، تملأ شوارع غزة. منها ممزقة ومنها محترقة ومنها موجودة بكمية هائلة. في المقابل، لا أثر لصور عرفات، الذي اقتربت ذكرى وفاته الأولى.

لم يخف التوتر في المطعم المطل على البحر الا عند مغادرته. موكب السيارات الضخمة المصفحة احدث غباراً مهولاً ساهمت رياح بحر غزة في انقشاعه.

ثمة شيء في قلب البحر امام مخيم الشاطئ، تركز نظرك فترى علم فلسطين يرفرف في وسط البحر. كان هذا المشهد من المشاهد القليلة التي تبعث فيك الأمل لكن الشعور سرعان ما يصطدم بالواقع. أطفال مخيم الشاطئ يحتفلون بالعيد بمبارزات يستعملون فيها مسدسات بلاستيك. في اول يوم من العيد، اغتال جنود الاحتلال الطفل احمد الخطيب البالغ من العمر 12 سنة في جنين عندما كان يلعب بمسدس بلاستيك.

في الليل، شوارع غزة خالية لكن مطاعمها ومقاهيها مملوءة بالناس. عند مدخل كل مطعم يوجد اعلان للزبائن: «لطفاً ممنوع الدخول بالسلاح». السلاح في كل مكان وأصوات الطلقات في الهواء لا تفاجئ أحداً. اتذكر بيروت.

سوق غزة خليط من سوق الروشة ايام حرب بيروت بصفائح الزنك المتراصة واحداً تلو الآخر وسوق الحميدية الدمشقي. مسجد العمري، اقدم مسجد في غزة، في طور الترميم. سوره الأثري مدروز بالشعارات الدينية، وشعارات المقاومة التي تتجاهل لافتة صغيرة كتب عليها: «الرجاء عدم الكتابة على جدران المسجد».

مجدي المصري، صاحب محل عطارة في السوق يشكو من الفلتان الأمني ومن ضعف «الحج محمود» (أبو مازن) في السيطرة على الأمن. يشكو من الوضع الاقتصادي القاسي. لمجدي ايضاً تلك النظرة التي حيرتني كثيراً.

صاحب مطعم افتتح حديثاً في غزة يبدأ سرد قصته العجيبة بمقدمة: «دعوني اقول لكم ان الوطن جميل». اكتشف ان هناك دعوة ضده من بلدية غزة بمبلغ من المال يدين به لمصلحة المطافئ التي تطالبه بتكاليف اطفاء حريق مطعمه الذي ترك مشتعلاً حتى لم يبق منه شيء. سرد قصته كما هي في الوقائع وانتهى كما بدأ: «الوطن جميل».


مطعم السلام على شاطىء غزة (الحياة)
عائلة غزاوية تكلمت بحماسة عن عرض افلام في سينما المركز الثقافي التابع لجمعية الهلال الأحمر خلال العيد. ابو قاسم علق بأمل عن حشود العائلات التي ذهبت الى العروض. العروض السينمائية في غزة شحيحة منذ ان حرقت سينما النصر الوحيدة على يد مجموعة من المسلحين في 1994. تأمل أم قاسم بأن تستمر الجمعية في عرض الأفلام وتقول ان الأمل موجود طالما العروض ملائمة للعائلات و «غير مستفزة».

الأمل الوحيد الذي يتمسك به أهل غزة هو فتح معبر رفح. «من غير المعبر سنظل في هذا السجن»، تقول لينا. مجدي صاحب محل العطارة قال الشيء نفسه. لكنه عندما دخل في تفاصيل معبر رفح، في التكلم عن الاحتمالات المختلفة، في ما ستتفاوض عليه مصر ودحلان، رجعت تلك النظرة من جديد. فجأة وضحت الرؤية التي اكتشفت انني لم اكن اريد الاعتراف بها.

انها نظرة من لا يرى نهاية للنفق المظلم.

سرقوا الأسد!